قصة مثل أعط الخبّاز خبزه لو أكل نصه
عدن الخبر
منوعات
صحيفة ((عدن الخبر)) إعداد القاضي أنيس جمعان المدونة الثقافية
▪️هناك الكثير من الناس الذين مروا بتجارب حياتية، عادة ما يقفون أمام الأمثال الشعبية ويرددونها، إذا عاشوا تجربة ينطبق عليها المثل الشعبي، وعادة ما تكون الأمثال خلاصة لتجارب إنسانية مر بها القائل أو غيره من الأشخاص من الذين على إتصال بهم.
▪️يقولون في الأمثال الشعبية الدارجة (أعط الخبّاز خبزه لو أكل نصفه)، والبعض يقول (إعط الخبّاز خبزه لو حرق نصفه)، وهو مثل عربي شهير جداً يُستخدم خاصة في بلاد الشام ومصر، وغالباً يطلق المثل على إعطاء العمل الفني بأي صورة من صوره للخبير الماهر حتى لوأضاع نصفه، وهذا المثل عربي معروف أو قد سمعنا به، مختصر يحمل حكمة عظيمة وحكاية مفيدة ممتعة، حيث كانت الدعوة لإحترام التخصصات والإيمان بأنها الطريق الحقيقي للوصول إلى النجاح والتميز والأتقان والعمل البناء.
▪قصة هذا المثل يُحكى أنّه في قديم الزمان كان خبازٌ كبيرٌ في السن لديه صانعٌ شاب وكان هذا الشاب محطّ ثقةٍ للخبّاز العجوز، ولما تقدم بالخبّاز العجوز العمر قال للصانع الشاب:
يا بُنّي لقد كبرت ولم أعد قادراً على على إدارة المخبز فأنا أريد منك إستلام العمل بذمة وأمانة فلكلٍ من أهل هذا الحي عائلة وهو بحاجة إلى كمية معينة من الخبز.
يا بني لا تسرف كي لا يبقى عندك بقايا خبز وأعمل لكل عائلةٍ على قدرها لا تزيد ولا تنقص رغيفاً واحداً، أمّا عنّي أنا فأنا أريد يومياً أربعة أرغفة أنا وزوجتي العجوز ومبارك عليك المخبز بما فيه !!
▪بعد فترة من إستلام المخبز أعاد الشاب حساباته في توزيع الخبز فوجد أنّ الخبّاز العجوز هو وزوجته لا يحتاجون إلا لرغيفين يومياً فأصبح يرسل لهما رغفين عوضاً عن 4 أرغفة !!
▪وبعد فترة وبينما الشاب يجول في سوق الحي يريدُ شراءَ دجاجة إستغرب أنّه لا يوجد في الحي أي دجاجة، أستغرب الشاب وعاد ليزور الخبّاز العجوز الذي أصبح راقداً في الفراش لا يقوى على الحركة.
▪دخل الشاب عند الخبّاز المنزل لأول مرة في حياته ووجد زوجته العجوز تطعم دجاجةً واحدة وكان لديها قن كبير يتسع لـ 20 دجاجة، فقال لها ماهذا ياخاله ؟
▪️قالت العجوز: منذ 40 عاماً وأهل الحي يشترون من عندي الدجاج، ولكن كما ترى لا قوّة لي بشراء الحنطة والقمح من الـسوق وأنا أعتمد على الأرغفة التي ترسلها لنا فأجفف رغيفين كل يوم للدجاج ونأكل أنا وزوجي رغيفين، وحينما قلّ ما يأتيني من خبز لم يعد يكفينا مع الدجاج فأصبحت أقلّل من إطعامهم حتّى بدأ عددهم يتناقص إلى دجاجة واحدة أدخرتها لنا فلا أستطيع بيع الدجاج للحي !!
يا بني لقد حرمت أهل الحي من الدجاج من أجل حساباتك الخاطئة !!
▪️قالت العجوز بعدها الجملة الشهيرة: أعط الخبّاز خبزه لو أكل نصه !!
▪يقصد بالمثل إن هناك مؤسسات تضع على رأسها أشخاصاً ليسوا على دراية بطبيعة العمل الذي يقومون به، لأنه بعيد عن تخصصهم، أي أن التخصص في العمل هو النقطة الأساس التي على ضوئها يستطيع الإنسان القيام بعمله على أفضل وجه، فالنجار يعرف ما يقوم به، وهكذا المزارع والحداد وصياد السمك والغواص والبناء وغيرهم كل منهم يعرف مجال عمله أفضل من الآخرين، ووجود الشخص في المكان الذي يناسب كفاءته وخبراته يرفع من شأنه ويزيد من مهاراته، ويطور من شأن المكان الذي يعمل به، فلا تسند الوظيفة إلاَّ لمن هو أهل لها، لا لمن جهلها، حتى لو كان حسن السيرة، فلا يُعطى له منصب لا يناسب خبرته لما في ذلك من عواقب سيئة على المجتمع، وقد تصل إلى خراب العمل !!
▪في واقعنا المعاصر الآن حيث إن الكل يعرف ما يعرفه الكل، وذلك لتوسع المعارف، وحيث إن سائق سيارة الأجرة غدا دليلاً سياحياً، والعطار صار طبيباً جراحاً، وسائق القطار صار مهندساً ميكانيكياً، والنجار مهندس بناء، والثائر أصبح قائداً وهو أمياً، والبائع الذي لا يفك اللغة العربية ولا حتى الانكليزية صيدلي متمرس، ومن يعرف كيف يكوّن جملة مفيدة من عدة كلمات غدى كاتباً، ومن لا يجد عملاً أصبح صحفياً، حتى الشحات تم الإعتداء على تخصصه، فلم يعد التسوّل حكراً على أصحاب الحاجة أو الفاقة من الفقراء وإنما وسيلة مضمونة لجمع الثروة !!
▪وفقاً ماتقدم، فإن الفجوة تزداد إتساعاً عن الإبداع، وتزداد تجويفاً نحو الأمية والفساد والتسيب والرشوة والواسطات والمحسوبيات، فنحن مبدعون بخلط (عبّاس بدبّاس) ووضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، فمن الواجب إحترام التخصصات والعمل، فخبّاز الأمس كان يأكل نصف خبزه، أما خبّاز اليوم فيؤكل تغميساً مع خبزه !!
▪خبّاز الأمس كان بإمكانه أن يأخذ صورة فوتوغرافية إلى جانب رغيفه الساخن، أما خبّاز اليوم فيتوارى خلف فرنه، بينما يظهر في الصورة من لا يميز حتى بين رائحة الخبز ورائحة الكعك، حيث ضيعنا الأمانة .. فضعنا !!
▪️وهناك حديث نبوي عن الأمانة يقدم لنا فيه منهجاً علمياً عظيماً، عن أبي هـريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ).[صحيح البخاري].
▪️فلو تمعنَّا في حديث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنفهم أنّه يشير إلى قانونٍ مهمٍّ للعمران البشريّ، أنّ إسناد الأمر لغير أهله، يعني الخـراب والدّمار لذلك المجتمع الّذي يقع فيه ذلك.
▪لقد أصبح هذا المثل يُضرب للدلالة عند ضرورة تصحيح الحسابات الخاطئة والتفكير جيداً قبل أتخاذ القرارات ورؤية ما سينتج عنها مع الأيام، وعلينا أن نعرف أبعاده الإجتماعية والإقتصادية والروحية حتى نستطيع التغلب على الكثير من مشاكلنا الحياتية التي نمر بها، ونضع الرجل المناسب في المكان المناسب، حتى تستقيم الأمور، وتسير الحياة كما أراد اللَّه أن تسير، فقد يكون الشخص متميزاً في أداء العمل بذكاء ومهارة، ولكنه لا يملك القدرة على الإدارة أو تنظيم الحسابات وتوزيع العمل بدقة، والأخذ بتعليمات الموجه الذي أعطاه المنصب وحمّله الأمانة حتى تستقيم أمور العمل بإعتدال، حتى لا نصبح مثل الخبّاز الذي عمل الرغيف ولم يركز في الحساب والتوزيع، وإلا سنكون كما قالت المرأة العجوز زوجة الخبّاز لقد حرمت أهل الحي من الدجاج من أجل حساباتك الخاطئة، فأعط الخبّاز خبزه لو أكل نصه !!
▪️ختاماً .. ليعذرنا الخبّازون لهذا التشبيه بمهنتهم فقد أختصهم المثل ليس إلا، وهم مشهود لهم بطهارة اليد وعملهم المتقن !!
—————————
▪️تم النشر في المدونة الثقافية من قبل القاضي أنيس صالح جمعـان في facebook بتاريخ 29 يناير 2024م